فصل: تفسير الآية رقم (14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (14):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطا} [14].
{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي: قويناها بالصبر على المجاهدة. وشجعناهم على محاربة الشيطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران. ومخالفة النفس وهجر المألوفات الجسمانية واللذات والقيام بكلمة التوحيد. وقيل جسّرناهم على القيام بكلمة التوحيد، وإظهار الدين القويم، والدعوة إلى الحق عند ملكهم الجبار. لقوله تعالى: {إِذْ قَامُوا} أي: بين يديه غير مبالين به. وإذ ظرف لربطنا. قال الشهاب: الربط على القلب مجاز عن الربط بمعنى الشد المعروف. أي: استعارة منه. كما يقال، رابط الجأش. لأن القلق والخوف ينزعج به القلب من محله، كما قال تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]، فشبه القلب المطمئن لأمرٍ، بالحيوان المربوط في محلٍّ. وعدِّى ربط بعلى وهو متعد بنفسه، لتنزيله منزلة اللازم: {فَقَالُوا رَبُّنَا} الذي نعبده: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بحيث يدخل تحت ربوبيته كل معبود سواه: {لَنْ نَدْعُوَا} أي: نعبد: {مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} أي: ذا بعد عن الحق، مفرط في الظلم.

.تفسير الآية رقم (15):

القول في تأويل قوله تعالى: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [15].
{هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةٍ} عملوا أو نحتوا لهم آلهة، فيفيد أنهم عبدوها. وفي الإشارة تحقير لهم: {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ} أي: على عبادتهم أو آلهيتهم أو تأثيرهم: {بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} أي: حجة بينة وبرهان ظاهر. فإن الدين لا يؤخذ إلا به. قال القاشاني: دليل على فساد التقليد، وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله، وتأثيره ووجوده، محال. كما قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23]، أي: أسماء بلا مسميات، لكونها ليست بشيء: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي: لا مساوي له في الظلم والكفر. إشارة إلى أنهم لا يأتون ببرهان. فهم ظالمون في حق الله، لافترائهم عليه بأن في رتبته العليا شركاء يساوونه فيها. ثم خاطب بعضهم بعضا بقولهم:

.تفسير الآية رقم (16):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [16].
{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} أي: وإذ اعتزلتم القوم، بترك متابعتهم، من إفراط ظلمهم، وهو موجب بغضهم. واعتزلتم معبوداتهم غير الله، فإنهم كانوا يعبدونهم صريحا أو في ضمن عبادتهم له، فأووا إلى الكهف الذي لا يطلعون عليكم فيه، فلا يؤذونكم، ولا تخافوا من الكون فيه، فوات الطعام والشراب، فإنكم إذا التجأتم إلى الله بعد ما دعوتموه بنشر الرحمة وتهيئة الرشد،: {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي: ما يغني عن الطعام والشراب، بالإمدادات الملكوتية والتأييدات القدسية: {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ} وهو اختيار جانبه على جانبكم: {مِرْفَقاً} أي: ما تنتفعون به. قال المهايمي: يرفق بنفوسكم فيعطيها من لذات عبادته ما ينسيها سائر اللذات. على أنها لذاتها لم تخل من أذية. وهذه خالية عن الأذيات كلها. وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم وقوة وثوقهم بفضل الله تعالى.
تنبيه:
زعم قوم أن الآية تفيد مشروعية العزلة واستحبابها مطلقا. وهو خطأ. فإنها تشير إلى التأسي بأهل الكهف في الاعتزال، إذا اضطُهد المرء في دينه وأريد على الشرك. وممن رد الاحتجاج بهذه الآية على تفضيل العزلة، الإمام الغزالي حيث قال في إحيائه: وأهل الكهف لم يعتزل بعضهم بعضا وهم مؤمنون. وإنما اعتزلوا الكفار. أي: ولا ريب في مشروعيته فراراً من الفتن.
فقول السيوطي في الإكليل: في الآية مشروعية العزلة والفرار من الظلمة وسكون الغيران والجبال عند فساد الزمان كلام مجمل لابد من التفصيل فيه. وأي عصر خلا من الفساد؟. وسياق الآية في الاضطهاد فحسب، فافهم ولا تغلُ. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (17):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [17].
{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ} أي: صعدت عند طلوعها: {تَزَاوَرُ} أي: تميل: {عَنْ كَهْفِهِمْ} أي: بابه: {ذَاتَ الْيَمِينِ} أي: يمين الكهف: {وَإِذَا غَرَبَتْ} أي: هبطت للغروب: {تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} أي: تقطعهم وتعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} أي: سعة من الكهف يصل إليهم الهواء من كل جانب دون أذى الشمس. وقد دلت الآية على أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال. فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف. وإذا غربت كانت على شماله. فيقع شعاعها على جانبيه. يحلل عفونته ويعدل هواءه. ولا يقع عليهم فيؤذيهم. قال الشهاب: تقرضهم من القرض بمعنى القطع. أي: قطع الاتصال بهم لئلا تغبر أبدانهم. قول الفارسي إنه من قرض الدراهم، والمعنى أنها تعطيهم من تسخينها شيئا ثم يزول بسرعة كالقرض المسترد- مردود، بأنه لم يسمع له ثلاثي.
وفي الروض الآنف تقرضهم كناية عن تعدل بهم. وقيل: تتجاوزهم شيئا. من القرض وهو القطع أي: تقطع ما هنالك من الأرض. وقوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} أي: إرشادهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، وشعاع الشمس والريح تدخل عليهم فيه، لتبقى أبدانهم، آية من آياته الدالة على عنايته وتوفيقه للمخلصين: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ} أي: إلى الحق بالتوفيق له: {فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ} أي: يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً} أي: ناصرا يلي أمره فيحفظه من الضلال: {مُرْشِداً} أي: يهديه إلى ما ذكر.

.تفسير الآية رقم (18):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [18].
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} خطاب لكل أحد. أي: تظنهم، يا مخاطب، أيقاظا لانفتاح أعينهم، وهم رقود مستغرقون في النوم، بحيث لا ينبههم الصوت. قال ابن كثير: ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى. فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها. وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينا ويفتح عينا. ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد. كما قال الشاعر:
ينامُ بإِحدى مُقلتيهِ وَيَتَّقِي ** بأخْرى الرَّزايا فَهُو يقظانُ نائمُ

و: {أَيْقَاظَاً} جمع يقظ ويقظان. و{رُقُودٌ} جمع راقد. وما قيل أنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود، لأن فاعلاً لا يجمع على فعول- مردود بما نص عليه النحاة كما صرّح به في المفضل والتسهيل.
{وَنُقَلِّبُهُمْ} أي: في رقدتهم: {ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} أي: لئلا تتلف الأرض أجسادهم: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} أي: بفناء الكهف أو الباب. وقد شملت بركتهم كلبهم. فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، قال ابن كثير: وهذا فائدة صحبة الأخيار. فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن. وقد قيل أنه كان كلب صيد لهم وهو الأشبه. واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها. بل هي مما نهي عنه. فإن مستندها رجم بالغيب. ووجود الكلب على هذه الحالة من العناية بهم. فكما حفظهم بالتقليب عن إهلاك الأرض، حفظهم عن الأعداء بكلب، ليهابوهم مع هيبةٍ ذاتيةٍ لهم. كما قال تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} أي: فنظرت إليهم، مع غاية قوتك في مكافحة الحروب: {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} أي: خوفا يملأ صدرك، لما ألبسوا من الهيبة. فلا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم وخافهم. وذلك- كما قال ابن كثير: لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله وتنقضي رقدتهم التي شاءها تبارك وتعالى فيهم. لما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة الواسعة. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (19):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} [19].
{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} أي: وكما أنمناهم تلك النومة، بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم، لم يفقدوا من هيئاتهم وأحوالهم شيئا، ادّكارا بقدرته على الإنامة والبعث جميعا. قال ابن كثير: وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين. وقوله تعالى: {لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} أي: ليسأل بعضهم بعضا ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيعتبروا، ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى، ويزدادوا يقينا، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرِّموا به. أفاده الزمخشري.
وبه يتبين أن البعث علة للتساؤل. ومن جعل اللام للعاقبة، لَحَظَ أن الغرض من فعله تعالى إظهار كمال قدرته: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} أي: رقدتم. اعترافاً بجهل نفسه أو طلبا للعلم من غيره، وإن لم يظهر كونه على اليقين: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قال ابن كثير: كأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار. ولهذا قالوا: أو بعض يوم. وقال المهايمي: فمن نظر إلى أنهم دخلوا غدوة وانتبهوا عشية، ظن أنهم لبثوا يوما، ومن نظر إلى أنه قد بقيت من النهار بقية، ظن أنهم لبثوا بعض يوم. فهم مع ما أعطوا من الكرامات يتكلمون بالظن. فالوليّ يجوز أن يتكلم بالظن فيما ليس من الأصول، ويجوز أن يخطئ. وقال الزمخشري: جواب مبني على غالب الظن. وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب. وأنه لا يكون كذبا. وأن جاز أن يكون خطأ.
{قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} إنكار عليهم من بعضهم، وأن الله أعلم بمدة لبثهم. كأن هؤلاء قد علموا بالأدلة، أو بإلهام من الله، أن المدة متطاولة، وأن مقدارها مبهم. فأحالوا تعيينها على ربهم: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} أي: المأخوذة للتزود. والورِق الفضة: {إِلَى الْمَدِينَةِ} أي: التي فررتم عنها: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً} أي: أطيب {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} أي: في المبايعة واختيار الطعام. أو في أمره بالتخفي، حتى لا يشعر بحالكم ودينكم: {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً}

.تفسير الآية رقم (20):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [20].
{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} يطلعوا على مكانكم: {يَرْجُمُوكُمْ} أي: يقتلوكم بالحجارة: {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} أي: يدخلوكم فيها بالإكراه العنيف: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} أي: إذا صرتم إلى ملتهم. قال القاشاني: ظهور العوام، واستيلاء المقلدة والحشوية المحجوبين، وأهل الباطل المطبوعين، ورجمهم أهل الحق، ودعوتهم إياهم إلى ملتهم- ظاهر. كما كان في أوائل البعثة النبوية.
لطائف:
الأولى: قال الزمخشري: فإن قلت: كيف وصلوا قولهم فابعثوا بتذاكر حديث المدة؟
قلت: كأنهم قالوا ربكم أعلم بذلك. لا طريق لكم في علمه. فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. انتهى.
ورأى المهايمي أن قولهم: {فَابْعَثُواْ} من تتمة حديث المدة. قصد به تفحصها. كأنهم لما أحالوا تعيينها على الله تعالى بقوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} قالوا هذه الإحالة لا تمنع من طلب العلم بالمدة. ولو في ضمن أمر آخر، فاطلبوه في ضمن حاجة لنا. وهي أن تبعثوا أحدكم. بورقكم هذه لئلا نحوج إلى السؤال عن المدة. لاسيما في مكان يمنع من الإجابة إلى المسؤول به، فيفضي إلى الهلاك.
الثانية: قال في الإكليل: قوله تعالى: {فَابْعَثُواْ} الآية، أصل في الوكالة والنيابة. قال ابن العربي: وهي أقوى آية في ذلك.
قال الكيا: وفيها دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام بينهم بالشركة. وإن تفاوتوا في الأكل.
الثالثة: دل قوله تعالى عنهم: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً} على مشروعية استجادة الطعام واستطابته بأقصى ما يمكن، لصيغة التفضيل. فإن الغذاء الأزكى المتوفر فيه الشروط الصحية يفيد الجسم ولا يتعبه ولا يكدره. ولذلك يجب طبّاً الاعتناء بجودته وتزكيته، كما فصل في قوانين الصحة.
الرابعة قال الرازي: الرجم بمعنى القتل، كثير في التنزيل كقوله: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91] وقوله: {أَنْ تَرْجُمُونِ} [الدخان: 20]، وأصله الرمي، أي: بالرجام وهي الحجارة. ولا يبعد إرادة الحقيقة في موارده كلها، زيادة في التهويل. فإن الرجم أخبث أنواع القتل. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (21):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [21].
{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي: كما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة، أطلعنا عليهم أهل المدينة حتى دخلها من بعثوه للطعام، وأخرج ورقهم المتقادمة العهد: {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي: ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم، أن وعد الله بالبعث حق. لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث: {وَأَنَّ السَّاعَةَ} أي: الموعود فيها بالبعث: {لا رَيْبَ فِيهَا} إذ لابد من الجزاء بمقتضى الحكمة. ثم أشار تعالى إلى ما كان من أمرهم بعد وفاتهم، وعناية قومهم بحفظ أجداثهم، بقوله سبحانه: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً} أي: على باب كهفهم بنيانا عظيما. كالخانقاهات المشاهد والمزارات المبنية على الأنبياء وأتباعهم، وإذ على ما يظهر لي، ظرف لأذكر مقدراً. والجملة مستأنفة لبيان ختم نبئهم بما جرى بعد مماتهم، إثر ما أوجز من نبئهم بعد بعثهم والإعثار عليهم وجعله ظرفا لـ: {أَعْثَرْنَا} أو لغيره مما ذكروا ليس فيه قوة ارتباط ولا دقة معنى.
وقوله تعالى: {فَقَالُواْ} تفسير للمتنازع فيه. وقوله تعالى: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} جملة معترضة. إما من الله ردا على الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين فيهم على عهده صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب،أو هي من كلام المتنازعين في عهدهم. كأنهم تذاكروا أمرهم العجيب وتحاوروا في أحوالهم ومدة لبثهم. فلما لم يهتدوا أحالوا حقيقة نبيهم إليه تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} أي: من المتنازعين، وهم أرباب الغلبة ونفوذ الكلمة: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} أي: نصلي فيه، تبركا بهم وبمكانهم.
تنبيه:
قال ابن كثير: حكي في القائلين ذلك قولان:
أحدهما: أنهم المسلمون منهم.
والثاني: أنهم المشركون. والظاهر أنهم هم أصحاب النفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» يحذّر ما فعلوا. انتهى.
وعجيب من تردده في كونهم غير محمودين، مع إيراده الحديث الصحيح بعده، المسجل بلعن فاعل ذلك. وهو أعظم ما عنون به على الغضب الإلهي والمقت الرباني. والسبب في ذلك أن البناء على قبر النبي والولي مدعاة للإقبال عليه والتضرع إليه. ففيه فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة. وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك؟ كما قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23]، قال: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قومهم. فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم. فلما طال فيهم الأمد عبدوهم. فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى، قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام. قال الإمام محمد بن عبد الهادي عليه الرحمة، في كتابه الصارم المنكى بعد إيراده ما تقدم: يوضحه أن الذين تكلموا في زيارة الموتى من أهل الشرك، صرحوا بأن القصد هو انتفاع الزائر بالمزور. وقالوا: من تمام الزيارة أن يعلق همته وروحه بالميت وقبره. فإذا فاض على روح الميت من العلويات الأنوار، فاض منها على روح الزائر بواسطة ذلك التعلق والتوجه إلى الميت. كما ينعكس النور على الجسم الشفاف، بواسطة مقابلته.
وهذا المعنى بعينه، ذكره عَبَّاد الأصنام في زيارة القبور. وتلقاه عنهم من تلقاه ممن لم يحط علما بالشرك وأسبابه ووسائله. ومن هاهنا يظهر سر مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والسرج. ولعنه فاعل ذلك وإخباره بشدة غضب الله عليه. ونهيه عن الصلاة إليها، ونهيه عن اتخاذ قبره عيدا. وسؤاله ربه تعالى أن لا يجعل قبره وثنا يعبد. فهذا نهيه عن تعظيم القبور. وذلك تعليمه وإرشادة للزائر أن يقصد نفع الميت والدعاء له والإحسان إليه، لا الدعاء به ولا الدعاء عنده.
ثم قال عليه الرحمة: ومن ظن أن ذلك تعظيم لهم فهو غالط جاهل. فإن تعظيمهم إنما هو بطاعتهم واتباع أمرهم ومحبتهم وإجلالهم. فمن عظمهم بما هو عاص لهم به، لم يكن ذلك تعظيماً. بل هو ضد التعظيم. فإنه متضمن مخالفتهم ومعصيتهم. فلو سجد العبد لهم أو دعاهم من دون الله أو سبحهم أو طاف بقبورهم واتخذ عليها المساجد والسرج، وأثبت لهم خصائص الربوبية، ونزههم عن لوازم العبودية، وادعى أن ذلك تعظيم لهم كان من أجهل الناس وأضلهم. وهو من جنس تعظيم النصارى للمسيح حتى أخرجوه من العبودية. وكل من عظّم مخلوقاً بما يكرهه ذلك المعظَّم ويبغضه، ويمقت فاعله، فلم يعظمه في الحقيقة، بل عامله بضد تعظيمه. فتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم أن تطاع أوامره وتصدق أخباره ولا يقدم على ما جاء به غيره. فالتعظيم نوعان: أحدهما ما يحبه المعظَّم ويرضاه ويأمر به ويثني على فاعله، فهذا هو التعظيم في الحقيقة. والثاني ما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله، فهذا ليس بتعظيم بل هو غلوّ مناف للتعظيم. ولهذا لم يكن الرافضة معظمين لعلي، بدعواهم الإلهية والنبوة أو العصمة ونحو ذلك. ولم يكن النصارى معظمين للمسيح. بدعواهم فيه ما ادعوا. والنبي صلى الله عليه وسلم. قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه. فأنكر على معاذ سجوده له وهو محض التعظيم. وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك أن رجلا قال: يا محمد! يا سيدنا! وابن سيدنا! وخيرنا! وابن خيرنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، ما أحب أن تعرفوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزّ وجلّ». وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم. فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» وكان يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه. ونهاهم أن يصلوا خلفه قياماً وهو مريض. وقال: «إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم. يقومون على ملوكهم» وكل هذا من التعظيم الذي يبغضه ويكرهه. ولقد غلا بعض الناس في تعظيم القبور حتى قال: إن البلاء يندفع عن أهل البلد أو الإقليم، بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين. وهو غلوّ مخالف لدين المسلمين، مخالف للكتاب والسنة والإجماع. وللبحث تتمة مهمة فانظره.